تهجير غزة- مخطط ترامب، خطر وجودي، ومسؤولية عربية تاريخية.

أثارت تصريحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، عاصفة سياسية مدوية في المنطقة والعالم، وذلك بابدائه طموحه بالهيمنة على قطاع غزة ووضع يده عليه لأجل غير مسمى، بهدف تحويله إلى "جنة" الشرق الأوسط، وذلك بعد إجلاء قاطنيه بشكل دائم إلى كل من مصر والأردن وغيرها من الدول.
هذا التصور لم يكن ليدور بخلد الساسة والمحللين، خاصة بعد تباهي ترامب مرارًا وتكرارًا باتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة، والذي يفترض أن يتمخض عن انسحاب كامل لقوات الاحتلال الإسرائيلي منه، والشروع الفوري في إعادة بنائه فور انتهاء المرحلة الثانية، أي بعد حوالي ثلاثة شهور من بدء تنفيذه.
أثار هذا الموقف رفضًا قاطعًا من قبل الفلسطينيين، والعرب، وعلى وجه الخصوص مصر والأردن، بالإضافة إلى المجتمع الدولي، خاصة الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، والصين، وروسيا، والأمين العام للأمم المتحدة غوتيريش.
إستراتيجية وتكتيك
الرئيس ترامب سوّغ فكرة تهجير الفلسطينيين من غزة، بذريعة إنسانية، وذلك لتوفير ملاذ آمن وكريم للسكان خارج غزة، بحجة أنها أصبحت مكانًا غير صالح للعيش.
العجيب في الأمر أنه طرح هذه الفكرة، بينما يقف بجانبه نتنياهو، المتهم بارتكاب جريمة تدمير غزة، والمطلوب بمذكرة توقيف من المحكمة الجنائية الدولية، بوصفه مجرم حرب، وذلك نظير قتله الفلسطينيين وتدمير معالم حياتهم في غزة، ويقف نتنياهو مبتسمًا ابتسامة عريضة في مشهد عبثي، يعكس مدى الانحدار السياسي والأخلاقي لدى الطرفين.
فبدلًا من أن يكفّر الرئيس الأمريكي عن خطيئة واشنطن في دعمها المطلق للاحتلال، وتدميره الشامل لقطاع غزة بأسلحة أمريكية فتاكة، يسارع بطرح أفكار ترقى إلى مستوى التطهير العرقي، خدمة لأهداف الصهيونية الاستعمارية، فما عجزوا عن انتزاعه بالقوة العسكرية المفرطة، يسعون للاستيلاء عليه عبر أفكار طوباوية غير قابلة للتحقيق، صادرة عن أكبر قوة في العالم، تحاكي معتقداتهم اللاهوتية المتطرفة، القائمة على تدمير الآخر وإبادته، بغية بناء كيان عرقي وديني خالص، في صورة عنصرية بغيضة مشبعة بالكراهية.
الجدير بالذكر أنه بعد أيام قليلة من طرح ترامب فكرة تهجير الفلسطينيين، ذكرت مصادر مطلعة لصحيفة نيويورك تايمز أن "أعضاء بارزين في الإدارة الأمريكية شعروا بصدمة شديدة"، وأن "الإدارة لم تقم بالتخطيط الضروري لفحص مدى جدوى المقترح"، وأشارت مصادر إسرائيلية أيضًا إلى أن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تفاجأت بهذا الطرح، مما يشير إلى أن الرئيس ترامب طرح فكرة سيئة وسطحية وخطيرة على مستقبل القضية الفلسطينية وأمن الشرق الأوسط، دون دراسة متعمقة لمدى واقعية تطبيقها.
هذا الأمر دفع مستشارين للرئيس ترامب إلى القول بأن "فكرة ملكية قطاع غزة ستتلاشى بعد أن اتضح للرئيس الأمريكي أنها غير قابلة للتطبيق"، حسب ما نقلته نيويورك تايمز، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، لماذا طرح الرئيس ترامب هذه الفكرة؟ هل هي مجرد نزوة عابرة أم أن هناك أهدافًا وغايات دفينة في عقل ترامب؟
أولًا: ليس من المستبعد أن تكون هذه الفكرة، مجرد بالون اختبار لجس نبض الفلسطينيين والدول العربية المعنية، فإذا كانت المواقف متباينة أو مترددة وضعيفة، فحينها يتقدم ترامب بالفكرة إلى الأمام، لخدمة إسرائيل المحتلة بالتخلص من الشعب الفلسطيني صاحب الأرض في قطاع غزة، ومن ثم تكرار التجربة في الضفة الغربية، لتحقيق حلم إسرائيل المحتلة في السيطرة على كامل فلسطين التاريخية بدون سكانها الأصليين.
وإذا نجح هذا السيناريو، فسيكون مقدمة لإسرائيل الكبرى، حيث تتطلع عيون الصهاينة إلى جنوب لبنان، والأردن وجنوب سوريا، كما صرح بذلك وزير المالية بتسلئيل سموتريتش الذي يعتبر الأردن جزءًا من "الأرض الموعودة"، وكما أشار هو ووزير الاتصالات شلومو كرعي إلى أن حدود القدس تصل إلى دمشق.
ثانيًا: إذا كان تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة فكرة فاشلة إستراتيجيًا لعدم واقعيتها، فإن الرئيس ترامب ربما يستخدمها كمناورة تكتيكية، وذلك بالتظاهر بأنه سيتنازل أو يخفض سقفه من التهجير إلى قبول إعادة إعمار غزة، لتحقيق هدفين من خلال الابتزاز والمساومة:
الهدف الأول: الضغط لنزع سلاح حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، والتحكم في مستقبل قطاع غزة وإدارته بمعايير تراعي مصالح الاحتلال الإسرائيلي الأمنية، مقابل إعماره.
الاتجاه الثاني: الضغط على السعودية للتخلي عن شرط الدولة الفلسطينية، والقبول بالتطبيع مع إسرائيل المحتلة مقابل إعمار قطاع غزة، كحاجة فلسطينية وعربية ملحة، لأن التهجير سيعد وصفة للتصعيد والاضطراب الأمني في المنطقة ودولها ولا سيما مصر والأردن.
ثالثًا: طرح فكرة التهجير من قبل ساكن البيت الأبيض، يعد بمثابة هدية مجانية لبنيامين نتنياهو، لمساعدته في الحفاظ على استقرار حكومته، وذلك بإعطائه فرصة لتسويق الاستمرار في تنفيذ المرحلة الثانية من اتفاق وقف إطلاق النار، لدى حلفائه اليمينيين المتطرفين، أمثال وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، الذي يهدد بانهيار الحكومة إذا تم الانتقال إلى المرحلة الثانية، وهنا تصبح فكرة تهجير سكان غزة ثمنًا مفترضًا، لإنفاذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته واشنطن ويتفاخر به الرئيس ترامب كإنجاز تاريخي وفائق السرعة.
فتصبح الفكرة، وإن كانت متخيلة أو طوباوية، مصلحة يتم توظيفها لصالح ترامب ونتنياهو، كل فيما يعنيه ويخصه.
مسؤولية ومصالح وجودية
بعض الدول العربية اتخذت موقفًا متخاذلًا أو غير مؤثر في وقف الإبادة الجماعية التي تعرض لها قطاع غزة، معتقدة أن النار لن تطالها، وأن هذا الموقف "المحايد" سيجلب لها رضا الولايات المتحدة الأمريكية، ويبعد عنها تداعيات المشهد الكارثي في غزة.
أما وقد تجاوز الأمر كل الحدود، وانتقل إلى تهديد أمن الدول العربية، من خلال تهجير الفلسطينيين، ولا سيما تهديد الأمن القومي المصري، وتهديد الهوية الأردنية الوطنية على قاعدة الوطن البديل للفلسطينيين، حسب الرؤية الإسرائيلية، فإن الأمر أصبح ملحًا وضروريًا لاتخاذ موقف حازم وصارم برفض التهجير، ومن ثم المسارعة في حماية الوجود الفلسطيني في غزة، عبر الإغاثة والإعمار دون أي تباطؤ أو تسويف؛ حتى لا يبقى لإسرائيل المحتلة أو الرئيس ترامب أي حجة أو ذريعة.
فدعم غزة ودعم الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، يشكل حصانة للقضية الفلسطينية، كما يشكل مصلحة للدول العربية، فالصمود الفلسطيني عامل حاسم لإفقاد الاحتلال الإسرائيلي شهية التوسع الاستيطاني الاستعماري، ولإفقاد إسرائيل القدرة على تهديد مصالح الدول العربية.
الغطرسة الإسرائيلية التوسعية، ومواقف الرئيس ترامب المتطرفة، تتطلب مواقف عربية جادة وقوية، خاصة من مصر والأردن والسعودية، لا سيما في ظل تلميح ترامب ومسؤولين أمريكيين، بأن الأنظمة العربية تتحدث في الإعلام عن شيء وفي الخفاء عن شيء آخر، وهذا ما يجعل الموقف العربي حاسمًا وتاريخيًا لحماية المصالح العربية وفي مقدمتها مصالح الدول التي لم يشفع لها تطبيع علاقاتها مع إسرائيل المحتلة.
المنظومة الغربية وفي مقدمتها واشنطن والرئيس ترامب لا يقدرون ولا يحترمون إلا الأقوياء، ولا يقيسون الأمور إلا وفقًا لمنطق المصالح، وهذا المبدأ لا بد أن يكون معيارًا للموقف العربي، الذي يملك أوراق قوة سياسية واقتصادية وجغرافية تجعل من المنطقة العربية قلب العالم وعصب التجارة الدولية.
يكفي أن تلوح مصر والأردن بتعليق علاقاتهما واتفاقيات السلام مع إسرائيل المحتلة حتى تعيد الأخيرة وواشنطن النظر في سياساتهما الكارثية على القضية الفلسطينية وعلى الأمن القومي العربي.
إن التداعيات الوجودية لسياسات الاحتلال الإسرائيلي، تستحق من العرب اتخاذ خطوات جريئة برفع السقف السياسي أمام كل من يهدد مصير المنطقة، ومصير القضية الفلسطينية.
فالحقيقة كانت وستبقى أن إسرائيل المحتلة شر مطلق، والمشروع الصهيوني تهديد إستراتيجي لأمن الدول العربية ومصالح شعوبها، مهما حاول البعض ترويضه بالسلام أو تقديم التنازلات.
